سورة الأنبياء - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)}
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} أي أخوفكم وأحذركم بالقرآن. {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ} أي من أصم الله قلبه، وختم على سمعه، وجعل على بصره غشاوة، عن فهم الآيات وسماع الحق. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن السميقع {وَلا يَسْمَعُ} بياء مضمومة وفتح الميم على ما لم يسم فاعله {الصم} رفعا أي إن الله لا يسمعهم. وقرأ ابن عامر والسلمى أيضا، وأبو حيوة ويحيى بن الحرث {ولا تسمع} بتاء مضمومة وكسر الميم {الصُّمُّ} نصبا، أي إنك يا محمد {لا تسمع الصم الدعاء}، فالخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورد هذه القراءة بعض أهل اللغة. وقال: وكان يجب أن يقول: إذا ما تنذرهم. قال النحاس: وذلك جائز، لأنه قد عرف المعنى.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ} قال ابن عباس: طرف. قال قتادة: عقوبة. ابن كيسان: قليل وأدنى شي، مأخوذة من نفح المسك. قال:
وعمرة من سروات النساء *** تنفح بالمسك أردانها
ابن جريج: نصيب، كما يقال: نفح فلان لفلان من عطائه، إذا أعطاه نصيبا من المال. قال الشاعر:
لما أتيتك أرجو فضل نائلكم *** نفحتني نفحة طابت لها العرب
أي طابت لها النفس. والنفحة في اللغة الدفعة اليسيرة، فالمعنى ولين مسهم أقل شيء من العذاب. {لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} أي متعدين. فيعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف.


{وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)}
قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} الموازين جمع ميزان. فقيل: إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة.
وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله، كما قال:
ملك تقوم الحادثات لعدله *** فلكل حادثة لها ميزان
ويمكن أن يكون ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع. وخرج اللالكاني الحافظ أبو القاسم في سننه عن أنس يرفعه: «إن ملكا موكلا بالميزان فيؤتي بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن رجح نادي الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا وإن خف نادي الملك شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا». وخرج عن حذيفة رضي الله عنه قال: صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام وقيل: للميزان كفتان وخيوط ولسان والشاهين، فالجمع يرجع إليها.
وقال مجاهد وقتادة والضحاك: ذكر الميزان مثل وليس ثم ميزان وإنما هو العدل. والذي وردت به الاخبار وعليه السواد الأعظم القول الأول. وقد مضى في الأعراف بيان هذا، وفي الكهف أيضا. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة مستوفى والحمد لله. و{القسط} العدل أي ليس فيها بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا. و{القسط} صفة الموازين ووحد لأنه مصدر، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط. مثل رجال عدل ورضا. وقرأت فرقة {القصط} بالصاد. {لِيَوْمِ الْقِيامَةِ} أي لأهل يوم القيامة.
وقيل: المعنى في يوم القيامة. {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسي. {وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر {مثقال حبة} بالرفع هنا، وفي لقمان على معنى إن وقع أو حضر، فتكون كان تامة ولا تحتاج إلى خبر الباقون {مثقال} بالنصب على معنى وإن كان العمل أو ذلك الشيء مثقال. ومثقال الشيء ميزانه من مثله. {أَتَيْنا بِها} مقصورة الالف قراءة الجمهور أي أحضرناها وجينا بها للمجازاة عليها ولها. يجاء بها أي بالحبة ولو قال به أي بالمثقال لجاز.
وقيل: مثقال الحبة ليس شيئا غير الحبة فلهذا قال: {أتينا بها}. وقرأ مجاهد وعكرمة: {آتينا} بالمد على معنى جازينا بها. يقال: آتى يؤاتي مؤاتاة. {وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} أي مجازين على ما قدموه من خير وشر.
وقيل: {حاسبين} أي لا أحد أسرع حسابا منا. والحساب العد. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا قعد بين يدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ قال: «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل» قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما تقرأ كتاب الله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا}» فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار كلهم. قال حديث غريب.


{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً} وحكى عن ابن عباس وعكرمة {الفرقان ضياء} بغير واو على الحال. وزعم الفراء أن حذف الواو والمجيء بها واحد، كما قال الله عز وجل: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً} [الصافات: 6- 7] أي حفظا. ورد عليه هذا القول الزجاج. قال: لان الواو تجئ لمعنى فلا تزاد. قال: وتفسير {الفرقان} التوراة، لان فيها الفرق بين الحرام والحلال. قال: {وَضِياءً} مثل {فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} وقال ابن زيد: {الفرقان} هنا هو النصر على الاعداء، دليله قوله تعالى: {وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ} [الأنفال: 41] يعني يوم بدر. قال الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية، لدخول الواو في الضياء، فيكون معنى الآية: ولقد آتينا موسى وهرون النصر والتوراة التي هي الضياء والذكر. {لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي غائبين، لأنهم لم يروا الله تعالى، بل عرفوا بالنظر والاستدلال أن لهم ربا قادرا، يجازي على الأعمال فهم يخشونه في سرائرهم، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس. {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ} أي من قيامها قبل التوبة. {مُشْفِقُونَ} أي خائفون وجلون. {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ} يعني القرآن {أَفَأَنْتُمْ لَهُ} يا معشر العرب {مُنْكِرُونَ} وهو معجز لا تقدرون على الإتيان بمثله. وأجاز الفراء {وهذا ذكر مباركا أنزلناه} بمعنى أنزلناه مباركا.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9